فصل: تفسير الآية رقم (14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ الشمس ضِيَاء‏}‏ تنبيه على الاستدلال على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته بآثار صنيعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية وإرشاد إلى أنه سبحانه حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبر البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى، أو جعل إما بمعنى أنشأ وأبدع فضياء حال من مفعوله وإما بمعنى صير فهو مفهوله الثاني، والكلام على حد ضيق فم القربة إذ لم تكن الشمس خالية عن تلك الحالة وهي على ما قيل مأخوذة من شمسة القلادة للخرزة الكبيرة وسطها وسميت بذلك لأنها أعظم الكواكب كما تدل عليه الآثار ويشهد له الحس وإليه ذهب جمهور أهل الهيئة، ومنهم من قال‏:‏ سميت بذلك لأنها في الفلك الأوسط بين أفلاك العلوية وبين أفلاك الثلاثة الأخر وهو أمر ظني لم تشهد له الأخبار النبوية كما ستعلمه قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏ والضياء مصدر كقيام، وقال أبو علي في الحجة‏:‏ كونه جمعاً كحوض وحياض وسوط وسياط أقيس من كونه مصدراً‏.‏ وتعقب بأن إفراد النور فيما بعد يرجح الأول، وياؤه منقلبة عن واو لإنكسار ما قبلها‏.‏ وأصل الكلام جعل الشمس ذات ضياء‏.‏

ويجوز أن يجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أي مضيئة وأن يبقى على ظاهره من غير مضاف فيفيد المبالغة بجعلها نفس الضياء‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏ضئاء‏}‏ بهمزتين بينهما ألف‏.‏ والوجه فيه كما قال أبو البقاء‏:‏ أن يكون أخر الياء وقدم الهمزة فلما وقعت الياء طرفا بعد ألف زائدة قلبت همزة عند قوم وعند آخرين قلبت ألفا ثم قلبت الألف همزة لئلا يجتمع ألفان ‏{‏والقمر نُوراً‏}‏ أي ذا نور أو منيراً أو نفس النور على حد ما تقدم آنفاً والنور قيل أعم من الضوء بناء على أنه ما قوى من النور والنور شامل للقوى والضعيف، والمقصود من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الله نُورُ السموات والارض‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ تشبيه هداه الذي نصبه للناس بالنور الموجود في الليل أثناء الظلام والمعنى أنه تعالى جعل هداه كالنور في الظلام فيهدي قوم ويضل آخرون ولو جعله كالضياء الذي لا يبقى معه ظلام لم يضل أحد‏.‏ وهو مناف للحكمة وفيه نظر، وقيل‏:‏ هما متباينان فما كان بالذات فهو ضياء وما كان بالعرض فهو نور، ولكون الشمس نيرة بنفسها نسب إليها الضياء ولكون نور القمر مستفاداً منها نسب إليه النور‏.‏ وتعقبه العلامة الثاني بأن ذلك قول الحكماء وليس من اللغة في شيء فإنه شاع نور الشمس ونور النار ونحن قد بسطنا الكلام على ذلك فيما تقدم وفي كتابنا الطراز المذهب وأتينا بما فيه هدى للناطرين‏.‏

بقي أن حديث الاستفادة المذكورة سواء كانت على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيراً كما في المرآة أو بأن يستنير جوهره على ما هو الأشبه عند الإمام قد ذكرها كثير من الناس حتى القاضي في تفسيره وهو مما لم يجىء من حديث من عرج إلى السماء صلى الله عليه وسلم وإنما جاء عن الفلاسفة‏.‏ وقد زعموا أن الأفلاك الكلية تسعة أعلاها فلك الأفلاك ثم فلك الثوابت ثم فلك كيوان ثم فلك برجيس‏.‏ ثم فلك بهرام ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك الكاتب ثم فلك القمر، وزعم صاحب التحفة أن فلك الشمس تحت فلك الزهرة وما عليه الجمهور هو الأول، واستدل كثير منهم على هذا الترتيب بما يبقى معه الاشتباه بين الشمس وبين الزهرة والكاتب كالكسف والانكساف واختلاف المنظر الذي يتوصل إلى معرفته بذات الشعبتين لأن الأول لا يتصور هناك لأن الزهرة والكاتب يحترقان عند الاقتران في معظم المعمورة والثاني أيضاً مما لا يستطاع علمه بتلك الآلة لأنها تنصب في سطح نصف النهار وهذان الكوكبان لا يظهران هناك لكونهما حوالي الشمس بأقل من برجين فإذا بلغا نصف النهار كانت الشمس فوق الأرض شرقية أو غربية فلا يريان أصلاً، وجعل الشمس في الفلك الأوسط لما في ذلك من حسن الترتيب كأنها شمسة القلادة أو لأنها بمنزلة الملك في العالم فكما ينبغي للملك أن يكون في وسط العسكر ينبغي لها أن تكون في وسط كرات العالم أمر إقناعي بل هو من قبيل التمسك بجبال القمر، ومثل ذلك تمسكهم في عدم الزيادة على هذه الأفلاك بأنه لا فضل في الفلكيات مع أنه لزم عليه أن يكون ثخن الفلك الأعظم أقل ما يمكن أن يكون للأجسام من الثخانة إذ لا كوكب فيه حتى يكون ثخنه مساوياً لقطره فالزائد على أقل ما يمكن فضل‏.‏ وقد بين في رسالة الأبعاد والإجرام أنه بلغ الغاية في الثخن‏.‏ وقد قدمنا لك ذلك وحينئذ يمكن أن يكون لكل من الثوابت فلك على حدة وأن تكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطباً ومنطقة وسرعة بل لو قيل بتخالف بعضها لم يكن هناك دليل ينفيه لأن المرصود منها أقل قليل فيمكن أن يكون بعض ما لم يرصد متخالفاً على أن من الناس من أثبت كرة فوق كرة الئوابت وتحت الفلك الأعظم واستدل على ذلك بما استدل، ومن علم أن أرباب الارصاد منذ زمان يسير وجدوا كوكباً سياراً أبطأ سيراً من زحل وسموه هرشلا وقد رصده لالنت فوجده يقطع البرج في ست سنين شمسية وأحد عشر شهراً وسبعة وعشرين يوماً وهو ويوم تحريرنا هذا المبحث وهو اليوم الرابع والعشرون من جمادي الآخرة سنة الألف والمائتين والست والخمسين حيث الشمس في السنبلة قد قطع من الحوت درجة واحدة وثلاث عشرة دقيقة راجعاً لا يبقى له اعتماد على ما قاله المتقدمون، ويجوز أمثال ما ظفر به هؤلاء المتأخرون، وأيضاً من الجائز أن تكون الأفلاك ثمانية لإمكان كون جميع الثوابت مركوز في محدب ممثل زحل أي في متممه الحاوي على أنه يتحرك بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة وحينئذ تكون دائرة البروح المارة بأوائل البروج منتقلة بحركة الثامن غير منتقلة بحركة الممثل ليحصل انتقال الثوابت بحركة الممثل من برج إلى برج كما هو الواقع‏.‏

وقد صرح البرجندي أن القدماء لم يثبتوا الفلك الأعظم وإنما أثبته المتأخرون، وأيضاً يجوز أن تكون سبعة بأن يفرض الثوابت ودائرة البروج على ما محدب ممثل زحل ويكون هناك نفسان تتصل إحداهما بمجموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين الأوليين والأخرى بالكرة السابعة وتحكرها الأخرى ولكن بشرط أن تفرض دوائر البروج متحركة بالسريعة دون البطيئة كتحركها متوهمة على سطوح الممثلات بالسريعة دون البطيئة لينقل الثوابت بالبطيئة من برج إلى برج كما هو الواقع ونحن من وراء المنع فيما يرد على هذا الاحتمال، وأيضاً ذكر الإمام أنه لم لا يجوز أن تكون الثوابت تحت فلك القمر فتكون تحت كرات السيارة لا فوقها‏.‏ وما يقال‏:‏ من أنا نرى أن هذه السيارة تكسف الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة مدفوع بأن هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة دون القريبة من القطبين فلم لا يجوز أن يقال‏:‏ هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوز في الفلك الثامن والقريبة من القطبين مركوز في كرة أخرى تحت كرة القمر‏.‏ على أنه لم لا يجوز أن يقال‏:‏ الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر ودون إثبات الامتناع خرط القتاد‏.‏

وذكروا في استفادة نور القمر من ضوء الشمس إنه من الحدسيات لاختلاف أشكاله بحسب قربه وبعده منها وذلك كما قال ابن الهيثم لا يفيد الجزم بالاستفادة لاحتمال أن يكون القمر كرة نصفها مضيء ونصفها مظلم ويتحرك على نفسه فيرى هلالا ثم بدراً ثم ينمحق وهكذا دائماً، ومقصوده أنه لا بد من ضم شيء آخر إلى اختلاف الأشكال حسب القرب والبعد ليدل على المدعى وهو حصول الخسوف عند توسط الأرض بينه وبين الشمس‏.‏ وبعض المحققين كصاحب حكمة العين وصاحب المواقف نقلوا ما نقلوا عن ابن الهيثم ولم يقفوا على مقصوده منه فقالوا‏:‏ إنه ضعيف وإلا لما انخسف القمر في شيء من الاستقبالات أصلاً وذلك كما قال العاملي عجيب منهم، وأنت تعلم أن لا جزم أيضاً وأن ضم ما ضم لجواز أن يكون سبب آخر لاختلاف تلك الأشكال النورية لكنا لا نعلمه كأن يكون كوكب كمد تحت فلك القمر ينخسف به في بعض استقبالاته‏.‏

وإن طعن في ذلك بأنه لو كان لرؤي‏.‏ قلنا‏:‏ لم لا يجوز أن يكون ذلك الاختلاف والخسوف من آثار إرادة الفاعل المختار من دون توسط القرب والبعد من الشمس وحيلولة الأرض بينها وبينه بل ليس هناك إلا توسط الكاف والنون وهو كاف عند من سلمت عينه من الغين‏.‏ وللمتشرعين من المحدثين وكذا لساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم كلمات شهيرة في هذا الشأن، ولعلك قد وقفت عليها وإلا فستقف بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد استندوا فيما يقولون إلى أخبار نبوية وأرصاد قلبية وغالب الأخبار في ذلك لم تبلغ درجة الصحيح وما بلغ منها آحاد ومع هذا قابل للتأويل بما لا ينافي مذهب الفلاسفة والحق أنه لا جزم بما يقولونه في ترتيب الأجرام العلوية وما يلتحق بذلك وأن القول به مما لا يضر بالدين إلا إذا صادم ما علم مجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏هذا‏}‏ وسمي القمر قميراً لبياضه كما قال الجوهري، واعتبر هو وغيره كونه قمراً بعد ثلاث‏.‏

‏{‏وَقَدَّرَهُ‏}‏ أي قدر له وهيأ ‏{‏مَنَازِلَ‏}‏ أو قدر مسيره في منازل فمنازل على الأول مفعول به وعلى الثاني نصب على الظرفية، وجوز أن يكون قدر بمعنى جعل المتعدي لواحد و‏{‏مَنَازِلَ‏}‏ حال من مفعوله أي جعله وخلقه متنقلاً وإن يكون بمعنى جعل المتعدي لاثنين أي صيره ذا منازل، وإياماً كان فالضمير للقمر وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ولكونه عمدة في تواريخ العرب ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأكثر، وجوز أن يكون الضمير له وللشمس بتأويل كل منهما، والمنازل ثمانية وعشرون وهي الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء‏.‏ والسماك الاعزل والعفرة والزباني والأكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت، وهي مقسمة على البروج الاثنى عشر المهشورة فيكون لكل برج منزلان وثلث، والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلثمائة وستين أجزاء دائرة البروج على اثنى عشر، والدرجة عندهم منقسمة بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهي منقسمة بستين ثالثة وهكذا إلى الروابع والخوامس والسوادس وغيرها، ويقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثاً وخمسين ثانية وستا وخمسين ثالثة، وتسمية ما ذكرنا منازل مجاز لأنه عبارة عن كواكب مخصوصة من الثوابت قريبة من المنطقة، والمنزلة الحقيقية للقمر الفراغ الذي يشغله جرم القمر على أحد الأقوال في المكان، فمعنى تزول القمر في هاتيك المنازل مسامتته إياها، وكذا تعتبر المسامتة في نزوله في البروج لأنها مفروضة أولا في الفلك الأعظم‏.‏

وأما تسمية نحو الحمل والثور والجوزة بذلك فباعتبار المسامتة أيضاً‏.‏

وكان أول المنازل الشرطين ويقال له النطح وهو لأول الحمل ثم تحركت حتى صار أولها على ما حرره المحققون من المتأخرين الفرغ المؤخر ولا يثبت على ذلك لأن للثوابت حركة على التوالي على الصحيح وإن كانت بطيئة وهي حركة فلكها، ومثبتو ذلك اختلفوا في مقدار المدة التي يقطع بها جزأ واحداً من درجات منطقته فقيل هي ست وستون سنة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الاعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الاعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية وطابقه الرصد الجديد الذي تولاه نصير الطوسي بمراغة، وزعم محيي الدين أحد أصحابه أنه تولى رصد عدة من الثوابت كعين الثور وقلب العقرب بذلك الرصد فوجدها تتحرك في كل ست وستين سنة شمسية درجة واحدة، وادعى بطليموس أنه وجد الثوابت القريبة إلى المنطقة متحركة في كل مائة سنة شمسية درجة والله تعالى أعلم بحقائق الأحوال وهو المتصرف في ملكه وملكوته حسبما يشاء ‏{‏لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين‏}‏ التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية ‏{‏والحساب‏}‏ أي ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، واللام على ما يفهم من أمالي عز الدين بن عبد السلام متعلقة بقدر‏.‏ واستشكل هو ذلك بأن علم العدد والحساب لا يفتقر لكون القمر مقدراً بالمنازل بل طلوعه وغروبه كاف‏.‏ وذكر بعضهم أن كمة ذلك صلاح الثمار بوقوع شعاع القمر عليها وقوعاً تدريجياً، وكونه أدل على وجوده سبحانه وتعالى إذ كثرة اختلاف أحوال الممكن وزيادة تفاوت أوصافه أدعى إلى احتياجه إلى صانع حكيم واجب بالذات وغير ذلك مما يعرفه الواقفون على الاسرار؛ وأجاب مولانا سرى الدين بأن المراد من الحساب حساب الأوقات بمعرفة الماضي من الشهر والباقي منه وكذا من الليل ثم قال‏:‏ وهذا إذا علقت اللام بقدره منازل منازل فإن علقته بجعل الشمس والقمر لم يرد السؤال‏.‏

ولعل الأولى على هذا أن يحمل ‏{‏السنين‏}‏ على ما يعم السنين الشمسية والقمرية وان كان المعتبر في التاريخ العربي الإسلامي السنة القمرية، والتفاوت بين السنتين عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة، فإن السنة الأولى عبارة عن ثلثمائة وخمسة وستين يوماً وخمس ساعات وتسع وأربعين دقيقة على مقتضى الرصد الايلخاني والسنة الثانية عبارة عن ثلثمائة وأربعة وخمسين يوماً وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، وينقسم كل منهما إلى بسيطة وكبيسة وبيان ذلك في محله، وتخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر في السنين المعدودة معنى مغاير لمراتب الأعداد كما اعتبر في الأوقات المحسوبة، وتحقيقه أن الحساب إحصاء ما له كمية انفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها عدد معين له اسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثنى عشر شهراً قد تحصل كل من ذلك من أيام معلومة قد تحصل كل منها من ساعات كذلك والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شيء كذلك، ولما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصيل حد معين له اسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد، وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصيل المعدود نفعاً، وحيث اعتبر في الأوقات المحسوبة تحصيل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبىء عن ذلك، والسنة من حيث تحققها في نفسها مما يتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها، وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من تلك الحيثية المذكورة أعني حيثية تحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها من عدة ساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث أنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شيء غير ذلك‏.‏

وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجوداً وعلماً على العكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين له علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبر فيه تحصيل أمر آخر حسبما حقق آنفا نازل من الحساب الذي اعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب قاله شيخ الإسلام‏.‏

‏{‏مَا خَلَقَ الله ذلك‏}‏ أي ما ذكر من الشمس والقمر على ما حكى سبحانه من الأحوال ‏{‏إِلاَّ بالحق‏}‏ استثناء من أعم أحوال الفاعل والمفعول، والباء للملابسة أي ما خلق ذلك ملتبساً بشيء من الأشياء إلا ملتبساً بالحق مراعياً فيه الحكمة والمصلحة أو مراعى فيه ذلك فالمراد بالحق هنا خلاف الباطل والعبث ‏{‏يُفَصّلُ الآيات‏}‏ أي الآيات التكوينية المذكورة أو الأعم منها ويدخل المذكور دخولاً أولياً أو نفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك‏.‏ وقرىء ‏{‏نُفَصّلُ‏}‏ بنون العظمة وفيه التفات ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا أو يعلمون ما في تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها‏.‏

وتخصيص التفصيل بهم على الاحتمالين لأنهم المنتفعون به، والمراد لقوم عقلاء من ذوي العلم فيعم من ذكرنا وغيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار‏}‏ تنبيه آخر اجمالي على ما ذكر أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين عند أكثر الفلاسفة لحركة الفلك الأعظم حول مركزه على خلاف التوالي فإنه يلزمها حركة سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب على ما تقدم مع سكون الأرض وهذا في أكثر المواضع وأما في عرض تسعين فلا يطلع شيء ولا يغرب بتلك الحركة أصلاً بل بحركات أخرى وكذا فيما يقرب منه قد يقع طلوع وغروب بغير ذلك وتسمى تلك الحركة الحركة اليومية وجعلها بعضهم بتمامها للأرض وجعل آخرون بعضها للأرض وبعضها للفلك الأعظم، والمشهور عند كثير من المحدثين أن الشمس نفسها تجري مسخرة بإذن الله تعالى في بحر مكفوف فتطلع وتغرب حيث شاء الله تعالى ولا حركة للسماء وإلى مثل ذلك ذهب الشيخ الأكبر قدس سره‏.‏

ويجوز أن يراد باختلاف الليل والنهار تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده وهو ناشىء عنده من اختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قرباً وبعداً بسبب حركتها الثانية التي بها تختلف الأزمنة، وتنقسم السنة إلى فصول وقد يتساوى الليل والنهار في بعض الأزمان عند بعض وذلك إنما يكون إذا اتفق حلول الشمس نقطة الاعتدال عند الطلوع أو الغروب وكان الأوج في احد الاعتدالين فإنه إذا تحقق الأول كان قوس النهار كقوس الليل وإذا تحقق الثاني كان الأمر بالعكس وهذا نادر جداً، ولا يمكن على ما ذهب إليه بطليموس من عدم حركة الأوج فلا يتساوى الليل والنهار عنده أصلاً، وقد يراد اختلافهما بحسب الأمكنة أما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها، وأما في أنفسهما فإن كرية الأرض على ما قالوا تقتضي أن تكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلاً وفي مقابله نهاراً‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقَ الله فِى السموات والارض‏}‏ من المصنوعات المتقنة والآثار المحكمة ‏{‏لايات‏}‏ عظيمة كثيرة دالة على وجود الصانع تعالى ووحدته وكمال قدرته وبالغ حكمته التي من جملة مقتضياته ما أنكروا من إرسال الرسول وإنزال الكتاب وتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوي الرد ‏{‏لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ‏}‏ الله تعالى ويحذرون من العاقبة، وخصصهم سبحانه بالذكر لأن التقوى هي الداعية للنظر والتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ بيان لمآل أمر من كفر بالبعث المشار إليه فيما سبق، وأعرض عن البينات الدالة عليه، والمراد بلقائه تعالى شأنه إما الرجوع إليه بالبعث أو لقاء الحساب، وأياماً كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالة من تهويل الأمر ما لا يخفى‏.‏

والرجاء يطلق على توقع الخير كالأمل وعلى الخوف وتوقع الشر وعلى مطلق التوقع وهو في الأول حقيقة وفي الأخيرين مجاز، واختار بعض المحققين المعنى المجازي الأخير المنتظم للأمل والخوف، فالمعنى لا يتوقعون الرجوع إلينا أو لقاء حسابنا المؤدي إلى حسن الثواب أو إلى سوء العقاب فلا يأملون الأول ولا يخافون الثاني ويشير إلى عدم أملهم قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَضُواْ بالحياة الدنيا‏}‏ فإنه منبىء عن إيثار الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس وإلى عدم خوفهم قوله عز وجل ‏{‏واطمأنوا بِهَا‏}‏ فإن المراد أنهم سكنوا فيها سكون من لا براح له آمنين من اعتراء المزعجات غير مخطرين ببالهم ما يسوءهم من العذاب، وجوز أن يراد بالرجاء المعنى الأول والكلام على حذف مضاف أي لا يؤملون حسن لقائنا بالبعث والاحياء بالحياة الأبدية ورضوا بدلاً منها ومما فيها من الكرامات السنية بالحياة الدنيا الفانية الدنية وسكنوا إليها مكبين عليها قاصرين مجامع هممهم على لذائذها وزخارفها من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، وجوز أن يراد به المعنى الثاني والكلام على حذف المضاف أيضاً أي لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف، وتعقب بأن كلمة الرضا بالحياة الدنيا تأبى ذلك فإنها منبئة عما تقدم من ترك الأعلى وأخذ الأدنى، وقال الآمام‏:‏ إن حمل الرجاء على الخوف بعيد لأن تفسير الضد بالضد غير جائز ولا يخفى أنه في حيز المنع فقد ورد ذلك في استعمالهم وذكره الراغب والإمام المرزوقي وأنشدوا شاهداً له قول أبي ذؤيب‏:‏ إذا لسعته النحل لم يرج لسعها *** وحالفها في بيت نوب عوامل

ووجه ذلك الراغب بأن الرجاء والخوف يتلازمان، وأما الاعتراض على الإمام بأن استعمال الضد في الضد جائز في الاستعارة التهكمية فليس بشيء لأن مقصوده رحمه الله تعالى أن ذلك غير جائز في غير الاستعارة المذكورة كما يشعر به قوله تفسير دون استعارة ثم إنه لا يجوز اعتبار هذه الاستعارة هنا لأن التهكم غير مراد كما لا يخفى، ويعلم مما ذكرنا في تفسير الآية أن الباء للظرفية، وجوز أن تكون للسببية على معنى سكنوا بسبب زينتها وزخارفها، واختيار صيغة الماضي في الخصلتين الأخيرتين للدلالة على التحقق والتقرر كما أن اختيار صيغة المستقبل في الأولى للإيذان بالاستمرار ‏{‏والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا‏}‏ المفصلة في صحائف الأكوان حسبما أشير إلى بعضها أو آياتنا المنزلة المنبهة على الاستدلال بها المتفقة معها في الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتب على البعث وعلى بطلان ما رضوا به واطمأنوا فيه من الحياة الدنيا ‏{‏غافلون‏}‏ لا يتفكرون فيها أصلاً وإن نبهوا بما نبهوا لانهماكهم بما يصدهم عنها من الأحوال المعدودة، وتكرير الموصول للتوصل به إلى هذه الصلة المؤذنة بدوام غفلتهم واستمرارها والعطف لمغايرة الوصف المذكور لما قبله من الأوصاف وفي ذلك تنبيه على أنهم جامعون لهذا وتلك وأن كل واحد منهما متميز مستقل صالح لأن يكون منشأ للذم والوعيد، والقول بأن ذلك لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأساً والانهماك في الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم الآخرة أصلاً ليس بشيء إذ يفهم من ظاهره أن كلاً منهما غير موجب للوعيد بالاستقلال بل الموجب له المجموع وهو كما ترى، وكونه لتغاير الفريقين بأن يراد من الأولين من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له كأهل الكتاب الذين ألهاهم حب الدنيا والرياسة عن الإيمان والاستعداد للآخرة بعيد غاية البعد في هذا المقام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ أي الموصوفن بما ذكر ‏{‏مَأْوَاهُمُ‏}‏ أي مسكنهم ومقرهم الذي لا براح لهم منه ‏{‏النار‏}‏ لا ما اطمأنوا به من الحياة الدنيا ونعيمها ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من الأعمال القلبية المعدودة وما يستتبعه من المعاصي أو يكسبهم ذلك، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على الاستمرار، والباء متعلقة بما دل عليه الجملة الأخيرة الواقعة خبراً عن اسم الإشارة وقدره أبو البقاء جوزوا، وجملة ‏{‏أولئك‏}‏ الخ خبر إن في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏ الخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ بما يجب الإيمان به ويندرج فيه الإيمان بالآيات التي غفل عنها الغافلون اندراجاً أولياً وقد يخص المتعلق بذلك نظراً للمقام ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ أي الأعمال الصالحة في أنفسها اللائقة بالإيمان وترك ذكر الموصوف لجريان الصفة مجرى الأسماء ‏{‏يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ‏}‏ أي يهديهم بسبب إيمانهم إلى مأواهم ومقصدهم وهي الجنة وإنما لم تذكر تعويلاً على ظهورها وانسياق النفس إليها لا سيما مع ملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة وما أداهم إليه من الأعمال السيئة ومشاهدة ما لحق من التلويح والتصريح‏.‏

والمراد بهذا الإيمان الذي جعل سبباً لما ذكر الإيمان الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا المجرد عنها ولا ما هو الأعم ولا ينبغي أن ينتطح في ذلك كبشان، والآية عليه بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة من أن الإيمان الخالي عن العمل الصالح يفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلد صاحبه في النار فإن منطوقها أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للهداية إلى الجنة، وأما إن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه كيف لا وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الامن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏ مناد بخلافه بناءً على ما أطبقوا عليه من تفسير الظلم بالشرك ولئن حمل على ظاهره أيضاً يدخل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحاً ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرام أو بترك واجب، وإلى حمل الإيمان على ما قلنا ذهب الزمخشري وقال‏:‏ إن الآية تدل على أن الإيمان المعتبر في الهداية إلى الجنة هو الإيمان المقيد بالعمل الصالح، ووجه ذلك بأنه جعل فيها الصلة مجموع الأمرين فكأنه قيل‏:‏ إن الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قيل‏:‏ بإيمانهم أي هذا المضموم إليه العمل الصالح‏.‏ وزعم بعضهم أن ذلك منه مبني على الاعتزال وخلود غير الصالح في النار، ثم قال إنه لا دلالة في الآية على ما ذكره لأنه جعل سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان، وأما إن إضافته إلى ضمير الصالحين يقتضي أخذ الصلاح قيداً في التسبب فممنوع فإن الضمير يعود على الذوات بقطع النظر عن الصفات، وأيضاً فإن كون الصلة علة للخبر بطريق المفهوم فلا يعارض السبب الصريح المنطوق على أنه ليس كل خبر عن الموصول يلزم فيه ذلك، ألا ترى أن نحو الذي كان معنا بالأمس فعل كذا خال عما يذكرونه في نحو الذي يؤمن يدخل الجنة، وانتصر للزمخشري بأن الجمع بين الإيمان والعمل الصالح‏.‏ ظاهر في أنهما السبب والتصريح بسببية الإيمان المضاف إلى ضمير الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالتنصيص على أنه ذلك الإيمان المقرون بما معه لا المطلق لكنه ذكر لأصالته وزيادة شرفه، ولا يلزم على هذا استدراك ذكره ولا استقلاله بالسببية‏.‏

وفيه رد على القاضي البيضاوي حيث ادعى أن مفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية الإيمان والعمل الصالح لكن منطوق قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِإِيمَانِهِمْ‏}‏ دل على استقلال الإيمان‏.‏ ومنع في «الكشف» أيضاً كون المنطوق ذلك وفرعه على كون الاستدلال من جعل الإيمان والعمل الصالح واقعين في الصلة ليجريا مجرى العلة ثم لما أعيد الإيمان مضافاً كان إشارة إلى الإيمان المقرون لما ثبت أن استعمال ذلك إنما يكون حيث معهود والمعهود السابق هو هذا والأصل عدم غيره، ثم قال‏:‏ ولو سلم أن المنطوق ذلك لم يضر الزمخشري لأن العمل يعد شرطاً حينئذٍ جمعاً بين المنطوق والمفهوم بقدر الإمكان فلم يلغ اقتران العمل ولا دلالة السببية، وهذا فائدة إفراده بالذكر ثانياً مع ما فيه من الأصالة وزيادة الشرف، ولا مخالف له من الجماعة لأن العصاة غير مهديين، وأما أن كل من ليس مهتدياً فهو خالد في النار فهو ممنوع غاية المنع انتهى وفي القلب‏:‏ من هذا المنع شيء والأولى التعويل على ما قدمناه في تقرير كون الآية بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة، والهداية على هذا الوجه يحتمل أن تفسر بالدلالة الموصلة إلى البغية وبمجرد الدلالة والمختار الأول، واختار الثاني من قال‏:‏ إن المعنى يهديهم طريق الجنة بنور إيمانهم، وذلك أما على تقدير المضاف أو على أن إيمانهم يظهر نوراً بين أيديهم، وقيل‏:‏ إن المعنى يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدي إلى الثواب والهداية عليه بالمعنى الأول، وقيل‏:‏ المراد يهديهم إلى إدراك حقائق الأمور فتنكشف لهم بسبب ذلك، وأياً ما كان فالالتفات في قوله سبحان‏:‏ ‏{‏رَّبُّهُمْ‏}‏ لتشريفهم بإضافة الرب إليهم مع الإشعار بعلة الهداية وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار‏}‏ أي من تحت منازلهم أو من بين أيديهم، استئناف نحوي أو بياني فلا محل له من الإعراب أو خبر ثان لأن فمحله الرفع‏.‏

وجوز أن يكون في محل النصب على الحال من مفعول ‏{‏يَهْدِيهِمُ‏}‏ على تقدير كون المهدي إليه ما يريدون في الجنة كما قال أبو البقاء، وإن جعل حالاً منتظرة لم يحتج إلى القول بهذا التقدير لكنه خلاف الظاهر، والزمخشري لما فسر ‏{‏يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ‏}‏ بيسددهم الخ جعل هذه الجملة بياناً له وتفسيراً لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها، ولا يخفى أن سبيل هذا البيان سبيل البدل وبذلك صرح الطيبي وحينئذٍ فمحلها الرفع لأنه محل الجملة المبدل منها وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِي جنات النعيم‏}‏ خبر آخر أو حال أخرى من مفعول ‏{‏يَهْدِيهِمُ‏}‏ فتكون حالاً مترادفة أو من ‏{‏الانهار‏}‏ فتكون متداخلة أو متعلق بتجري أو بيهدي والمراد على ما قيل بالمهدي إليه إما منازلهم في الجنة أو ما يريدونه فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏دَعْوَاهُمْ‏}‏ أي دعاؤهم وهو مبتدأ، وقوله تعالى شأنه‏:‏ ‏{‏فِيهَا‏}‏ متعلق به، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سبحانك اللهم‏}‏ خبره أي دعاؤهم هذا الكلام، والدعوى وإن اشتهرت بمعنى الادعاء لكنها وردت بما ذكرنا أيضاً، وكون الخبر من جنس الدعاء يشهد له قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» والظاهر أن إطلاق الدعاء على ذلك مجاز وهو الذي يفهمه كلام ابن الأثير حيث قال‏:‏ إنما سمى التهليل والتحميد والتمجيد دعاء لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله تعالى وجزائه‏.‏ وفي الحديث «إذا شغل عبدي ثناؤه على من مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» وجاءت بمعنى العبادة كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 48‏]‏ وجوز إرادته هنا والمراد نفي التكليف أي لا عيادة لهم غير هذا القول وليس ذلك بعبادة وإنما يلهمونه وينطقون به تلذذاً لا تكليفاً‏.‏ ونظير ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 35‏]‏ وفيه خفاء كما لا يخفى وقد يقال‏:‏ يأتي نظير هذا في الآية على احتمال أن يراد بالدعوى الدعاء حقيقة فيكون المعنى على طرز ما قرر أنه لا سؤال لهم من الله تعالى سوى ذلك، ومن المعلوم أن ذلك ليس بسؤال فيفيد أنه لا سؤال لهم أصلاً‏.‏

والغرض من ذلك الإشارة إلى حصول جميع مقاصدهم بالفعل فليس بهم حاجة إلى سؤال شيء إلا أن فيه ما فيه ونصب سبحان على المصدرية لفعل محذوف وجوباً وهو بمعنى التسبيح‏.‏ وقدرت الجملة اسمية أي أنا نسبحك تسبيحاً لأنها أبلغ والجمل التي بعدها كذلك، و‏{‏اللهم‏}‏ بتقدير يا ألله حذف حرف النداء وعوض عنه الميم وتمام الكلام فيه وفيما قبله قد تقدم لك فتذكر، وكان القياس تقديم الاسم الجليل لأن النداء يقدم على الدعاء لكنه استعمل في التسبيح كذلك قيل‏:‏ لأنه تنزيه عن جميع النقائص وفي النداء ربما يتوهم ترك الأدب‏.‏

‏{‏وَتَحِيَّتُهُمْ‏}‏ أي ما يحيون به ‏{‏فِيهَا سلام‏}‏ أي سلامتهم من كل مكروه، وهو خبر ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ‏}‏ و‏{‏فِيهَا‏}‏ متعلق بها، والتحية والتكرمة بالحال الجليلة وأصلها أحياك الله تعالى حياة طيبة، وإضافتها هنا إلى المفعول، والفاعل أما الله سبحانه أي تحية الله تعالى إياهم ذلك ويرشد إليه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 58‏]‏ أو الملائكة عليهم السلام ويرشد إليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سلام‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ‏(‏وجوز أن تكون الإضافة إلى الفاعل بتقدير مضاف أي تحية بعضهم بعضاً آخر ذلك‏.‏

وقد يعتبر البعض المقدر مفعولاً فالإضافة إلى المفعول والفعل محذوف، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون مما أضيف فيه المصدر لفاعله ومفعوله معاً إذا كان المعنى يحيي بعضهم بعضاً، ونظيره في الإضافة إلى الفاعل والمفعول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهدين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏ حيث أضيف حكم إلى ضمير داود وسليمان عليهما السلام وهما حاكمان وغيرهما وهم المحكوم عليهم، وليس ذلك من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف فيه حيث أن إضافة المصدر لفاعله حقيقة ولمفعوله مجاز لأنه لا خلاف في جواز الجمع إذا كان المجاز عقلياً إنما الخلاف فيه إذا كان لغوياً ‏{‏دعواهم فِيهَا‏}‏ أي خاتمة دعائهم ‏{‏أَنِ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ أي أنه الحمد لله فأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف والجملة الاسمية خبرها وأن ومعمولاها خبر آخر، وليست مفسرة لفقد شرطها، ولا زائدة لأن الزيادة خلاف الأصل ولا داعي إليها، على أنه قد قرأ ابن محيصن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ ويعقوب بتشديدها ونصب ‏{‏الحمد‏}‏ وفي ذلك دليل لما قلنا، والظاهر أن تحقق مضمون هذه الجمل لكونها اسمية على سبيل الدوام والاستمرار وفي الإخبار ما يؤيده، فلعل القوم لما دخلوا الجنة حصل لهم من العلم بالله تعالى ما لم يحصل لهم قبله على اختلاف مراتبهم‏.‏

وقد صرح مولانا شهاب الدين السهروردي في بعض رسائله في الكلام بتفاوت أهل الجنة في المعرفة فقال‏:‏ أن عوام المؤمنين في الجنة يكونون في العلم كالعلماء في الدنيا والعلماء فيها يكونون كالأنبياء عليهم السلام في الدنيا والأنبياء عليهم السلام يكونون في ذلك كنبينا صلى الله عليه وسلم ويكون لنبينا عليه الصلاة والسلام من العلم بربه سبحانه الغاية القصوى التي لا تكون لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ويمكن أن يكون ذلك المقام المحمود، ولا يبعد عندي أنهم مع تفاوتهم في المعرفة لا يزالون يترقبون فيها على حسب مراتبهم، والسير في الله سبحانه غير متناه والوقوف على الكنه غير ممكن، وحينئذٍ التفاوت في معرفة الصفات وهي كما قيل إما سلبية وتسمى بصفات الجلال لأنها يقال فيها‏:‏ جل عن كذا جل عن كذا وإما غيرها وتسمى بصفات الإكرام وبذلك فسر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تبارك اسم رَبّكَ ذِى الجلال والإكرام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 78‏]‏ فلا يزالون يدعون الله تعالى بالتسبيح الذي هو إشارة إلى نعته بنعوت الجلال وبالتحميد الذي هو إشارة إلى وصفه بصفات الإكرام، والدوام عرفي وهو أكثر من أن يحصى، وقوله عليه الصلاة والسلام في وصف أهل الجنة كما في «صحيح مسلم»‏:‏ ‏"‏ يسبحون الله تعالى بكرة وعشياً ‏"‏ يؤيد بظاهره ذلك، والمراد بالبكر والعشية كما قال النووي قدرهما، وظاهر الآية أنهم يقدمون نعته تعالى بنعوت الجلال ويختمون دعاءهم بوصفه بصفات الإكرام لأن الأولى متقدمة على الثانية لتقدم التخلية على التحلية، ويرشد إلى ذلك قوله سبحانه‏:‏

‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ والمختار عندي كون فاعل التحية هو الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام وحينئذٍ لا يبعد أن يكون الترتيب الذكرى حسب الترتيب الوقوعي وذلك بأن يقال‏:‏ إنهم حين يشرعون بالدعاء سبحون الله تعالى وينزهونه فيقابلون بالسلام وهو دعاء بالسلامة عن كل مكروه فإن كان من الله سبحانه فهو مجاز لا محالة لاستحالة حقيقة الدعاء عليه تعالى وإن كان من الملائكة عليهم السلام فلا مانع من بقائه على حقيقته لكن يوجه الطلب فيه إلى الدوام لأن أصل السلامة حاصل لهم وإن قلنا‏:‏ إنها تقبل الزيادة فلا بعد في أن يوجه إلى طلبها، وما ألطف مقابلة التسبيح والتنزيه بالسلامة عن المكروه لقربها من ذلك معنى كما لا يخفى على المنصف ثم يختمون دعاءهم بالحمد لله رب العالمين‏.‏ وهكذا لا يزال دأبهم بكرة وعشياً كما يشير إليه خبر الصحيح، ولعل عدم ذكر التحميد فيه اكتفاء بما في الآية وهذا ما عندي فيها‏.‏ وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وأبو الشيخ عن ابن جريج قال‏:‏ أخبرت أن أهل الجنة إذا مر بهم الطائر يشتهونه قالوا‏:‏ سبحانك اللهم وذلك دعاؤهم به فيأتيهم الملك بما اشتهوا فإذا جاء الملك به يسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ‏}‏ فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا‏:‏ الحمد لله رب العالمين وذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ‏}‏ وهو ظاهر في أن الترتيب الذكرى حسب الترتيب الوقوعي أيضاً لكن يدل على أن الدعوى بمعنى الدعاء، ومعنى كون سبحانك اللهم دعاء وطلباً لما يشتهون حينئذٍ أنه علامة للطلب، ونظير ذلك تسبيح المصلى إذا نابه شيء في صلاته وفي بعض الآثار أن هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا قالوها أتوهم بما يشتهون‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعاً أنهم إذا قالوا ذلك أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم ولا بأس في ذلك‏.‏ نعم في كون الحمد بعد أكل قدر حاجتهم مدلول قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ‏}‏ خفاء‏.‏

وقال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله‏:‏ لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله سبحانه وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام وهو أيضاً ظاهر في كون الترتيب الذكري كما قلنا إلا أنه تعقب بأن إضافة ‏{‏ءاخَرَ‏}‏ إلى ‏{‏دَعْوَاهُمْ‏}‏ يأباه، وكأن وجه الإباء على ما قيل‏:‏ إن ذلك على هذا آخر الحال وبأن اعتبار الفوز بالكرامات في مفهوم السلام غير ظاهر، ولعل الأمر فدي ذلك سهل‏.‏

وقال شيخ الإسلام‏:‏ لعلهم يقولون‏:‏ سبحانك اللهم عندما يعاينون من تعاجيب آثار قدرته تعالى ونتائج رحمته ورأفته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تقديساً لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصان وتنزيهاً لوعده الكريم عن سمات الخلف ويكون خاتمة دعائهم أن يقولوا‏:‏ الحمد لله رب العالمين نعتاً له تعالى شأنه بصفات الإكرام إثر نعته بصفات الجلال، والمعنى دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه في سلك الدعاء، ولعل توسيط ذكر تحيتهم عند الحكاية بين دعائهم وخاتمته للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تبركاً مع أن التحية ليست بأجنبية على الإطلاق انتهى‏.‏ وكأنه أراد بعدم كون التحية أجنبية على الإطلاق كونها دعاء معنى، وكلامه نص في أن الترتيب الوقوعي مخالف للترتيب الذكري، ولا يخفى أن توجيه توسيذ ذكر التحية بما ذكره مما لا يكاد يرتضيه منصف على أنه غفل هو وسائر من وقفنا على كلامه من المفسرين عن توجيه اسمية الجمل فافهم، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ‏}‏ هم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى المذكورون في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏ الخ، والآية متصلة بذلك دالة على استحقاقهم للعذاب وأنه سبحانه إنما يمهلهم استدراجاً وذكر المؤمنين وقع في البين تتميماً ومقابلة، وجىء بالناس بدل ضميرهم تفظيعاً للأمر‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم إنما أوردوا باسم الجنس لما أن تعجيل الخير لهم ليس دائراً على وصفهم المذكور إذ ليس كل ذلك بطريق الاستدراج، والمراد لو يعجل الله تعالى لهم ‏{‏الشر‏}‏ الذي كانوا يستعجلون به تكذيباً واستهزاءاً فإنهم كانوا يقولون‏:‏ ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 48‏]‏ ونحو ذلك‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال‏:‏ هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، وأخرجا عن مجاهد أنه قال‏:‏ هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب اللهم لا تبارك فيه‏.‏ اللهم العنه، وفييه حمل الناس على العموم والمختار الأول، ويؤيده ما قيل‏:‏ من أن الآية نزلت في النضر بن الحرث حين قال‏:‏ اللهم إن كان هذا هو الحق الخ، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏استعجالهم بالخير‏}‏ نصب على المصدرية، والأصل على ما قال أبو البقاء تعجيلاً مثل استعجالهم فحذف تعجيلاً وصفته المضافة وأقيم المضاف إليه مقامها‏.‏

وفي «الكشاف» وضع ‏{‏استعجالهم بالخير‏}‏ موضع تعجيله لهم إشعاراً بسرعة إجابته سبحانه لهم وإسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل له وهو كلام رصين يدل على دقة نظر صاحبه كما قال ابن المنير، إذ لا يكاد يوضع مصدر مؤكد مقارناً لغيير فعله في الكتاب العزيز بدون مثل هذه الفائدة الجليلة، والنحاة يقولون في ذلك‏:‏ أجري المصدر على فعل مقدر دل عليه المذكور ولا يزيدون عليه، وإذا راجع اللفطن قريحته وناجى فكرته علم أنه إنما قرن بغير فعله لفائدة وهي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ التنبيه على نفوذ القدرة في المقدور وسرعة إمضاء حكمها حتى كأن إنبات الله تعالى لهم نفس نباتهم أي إذا وجد الإنبات وجد النبات حتماً حتى كأن أحدهما عين الآخر فقرن به‏.‏ وقال الطيبي‏:‏ كان أصل الكلام ولو يجعل الله للناس الشر تعجيله ثم وضع موضعه الاستعجال ثم نسب إليهم فقيل استعجالهم بالخير لأن المراد أن رحمته سبقت غضبه فأريد مزيد المبالغة وذلك أن استعجالهم الخير أسرع من تعجيل الله تعالى لهم ذلك فإن الإنسان خلق عجولاً والله تعالى صبور حليم يؤخر للمصالح الجمة التي لا يهتدي إليها عقل الإنسان ومع ذلك يسعفهم بطلبتهم ويسرع إجابتهم‏.‏

وأوجب أبو حيان كون التقدير تعجيلاً مثل استعجالهم أو أن ثم محذوفاً يدل علييه المصدر أي لو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوه استعجالهم بالخير قال‏:‏ لأن مدلول عجل غير مدلول استعجل لأن عجل يدل على الوقوع واستعجل يدل على طلب التعجيل وذلك واقع من الله تعالى وهذا مضاف إليهم فلا يجوز ما قرره الزمخشري وأتباعه‏:‏ وأجاب السفاقسي بأن استفعل هنا للدلالة على وقوع الفعل لا على طلبه كاستقر بمعنى أقر، وقوله‏:‏ وهذا مضاف إليهم مبني على أن المصدر مضاف للفاعل ويحتمل أن يكون مضافاً للمفعول ولا يخفى أن كل ذلك ناش من قلة التدبر، ومعنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ‏}‏ لأميتوا وأهلكوا بالمرة يقال‏:‏ قضى إليه أجله أي أنهى إليه مدته التي قدر فيها موته فهلك، وفي إيثار صيغة المبنى للمفعول جرى على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعل‏.‏ وقرأ ابن عامر‏.‏ ويعقوب ‏{‏لَقُضِىَ‏}‏ على البناء للفاعل، وقرأ عبد الله ‏{‏لقضينا‏}‏ وفيه التفات، واختيار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل فإن المضارع المنفي الواقع موقع الماضي لي بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضاً بحسب المقام كما حقق في موضعه‏.‏

وذكر بعض المحققين أن المقدم ههنا ليس نفس التعجيل المذكور بل هو إرادته المستتبعة للقضاء المذكور وجوداً وعدماً لأن القضاء ليس أمراً مغايراً لتعجيل الشر في نفسه بل هو إما نفسه أو جزئي منه كسائر جزئياته من غير مزية له على البقية إذ لم يعتبر في مفهومه ما ليس في مفهوم تعجيل الشر من الشدة والهول فلا يكون في ترتبه عليه وجوداً أو عدماً مزيد فائدة مصححة لجعله تالياً له فليس كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الامر لَعَنِتُّمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏ ولا كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 30‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏ إذا فسر الجواب بالاستئصال، وأيضاً في ترتيب التالي على إرادة المقدم ما ليس في ترتيبه على المقدم نفسه من الدلالة على المبالغة وتهويل الأمر والدلالة على أن الأمور منوطة بإرادته تعالى المبنية على الحكم البالغة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ أي نتركهم إمهالاً واستدراجاً ‏{‏فِي طغيانهم‏}‏ الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على ذلك من الأعمال السيئة والمقالات الشنيعة ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ أي يترددون ويتحيرون، لا يصح عطفه على شرط ‏{‏لَوْ‏}‏ ولا على جوابها لانتفائه وهو مقصود إثباته وليست ‏{‏لَوْ‏}‏ بمعنى أن كما قيل فهو إما معطوف على مجموع الشرطية لأنها في معنى لا يعجل لهم وفي قوته فكأنه قيل‏:‏ لا يعجل بل يذرهم أو معطوف على مقدر تدل عليه الشرطية أي ولكن يمهلهم أو ولكن لا يعجل ولا يقضي فيذرهم وبكل قال بعض، وقيل‏:‏ الجملة مستأنفة والتقدير فنحن نذرهم، وقيل‏:‏ إن الفاء واقعة في جواب شرط مقدر والمعنى لو يعجل الله تعالى ما استعجلوه لأبادهم ولكن يمهلهم ليزيدوا في طغيانهم ثم يستأصلهم وإذا كان كذلك فنحن نذر هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يترددون ثم نقطع دابرهم‏.‏

وصاحب الكشف بعد ما قرر أن اتصال ‏{‏وَلَوْ يُعَجّلُ‏}‏ الخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 7‏]‏ الخ وأن ذكر المؤمنين إنما وقع في البين تتميماً ومقابلة وليس بأجنبي قال‏:‏ إنه لا حاجة إلى جعل هذا جواب شرط مقدر، وفي وضع الموصول موضع الضمير نوع بيان للطغيان بما في حيز الصلة وإشعار بعليته للترك والاستدراج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر‏}‏ أي إذا أصابه جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيرة، وقيل‏:‏ مطلقاً ‏{‏دَعَانَا‏}‏ لكشفه وإزالته ‏{‏لِجَنبِهِ‏}‏ في موضع الحال ولذا عطف عليه الحال الصريحة أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا‏}‏ أي دعانا مضطجعاً أو ملقى لجنبه، واللام على ظاهرها، وقيل‏:‏ إنها بمعنى على كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 107‏]‏ ولا حاجة إليه وقد يعبر بعلى وهي تفيد استعلاءه عليه واللام تفيد اختصاص كينونته واستقراره بالجنب إذ لا يمكنه الاستقرار على غير تلك الهيئة ففيه مبالغة زائدة‏.‏

واختلف في ذي الحال فقيل‏:‏ إنه فاعل ‏{‏دَعَانَا‏}‏ وقييل‏:‏ هو مفعول ‏{‏مَسَّ‏}‏ واستضعف بأمرين‏:‏ أحدهما تأخر الحال عن محلها من غير داع‏.‏ الثاني أن المعنى على أنه يدعو كثيراً في كل أحواله إلا أنه خص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة لا أن الضر يصيبه في كل أحواله‏:‏ وأجيب عن هذا بأنه لا بأس به فإنه يلزم من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه فيها أيضاً لأن القيد في الشرط قيد في الجواب فإذا قلت إذا جاء زيد فقيراً أحسنا إليه فالمعنى أحسنا إليه في حال فقره وأنت تعلم أن الأظهر هو الأول، واعتبر بعضهم توزيع هذه الأحوال على أفراد الإنسان على معنى أن من الإنسان من يدعو على هذه الحالة ومنه من يدعو على تلك، وذكر غير واحد أنه يجوز أن يكون المراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار لأنها إما خفيفة لا تمنع الشخص القيام أو متوسطة تمنعه القييام دون القعود أو شديدة تمنعه منها وانفهام ذلك منها بمعونة السياق و‏{‏إِذَا‏}‏ قيل إنها على أصلها وقيل إنها للمضي ‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ‏}‏ الذي مسه غب ما دعانا كما ينبىء عنه الفاء ‏{‏مَرَّ‏}‏ أي مضى واستمر على ما كان عليه قبل ونسي حالة الجهد والبلاء أو مر عن موقف الدعاء والابتهال ونأى بجانبه، والمرور على الأول مجاز وعلى الثاني باق على حقيقته ويكون كناية عن عدم الدعاء ‏{‏كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا‏}‏ أي كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن، ومثل ذلك قوله‏:‏ ووجه مشرق النحر *** كأن ثدياه حقان

فإن الأصل فيه كأنه فخفف كأن وحذف ضمير الشأن، لكن صرح ابن هشام في شواهده أن ذلك غير متعين إذ يجوز كون الضمير للوجه أو للصدر على رواية وصدر وروي كأن ثدييه على إعمال كأن في اسم مذكور ولا يبعد أن يجوز ذلك في الرواية الأولى على بعض اللغات، والجملة التشبيهية في موضع الحال من فاعل ‏{‏مَرَّ‏}‏ أي مر مشبهاً بمن لم يدعنا ‏{‏إلى ضُرّ‏}‏ أي إلى كشفه لأنه المدعو إليه، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى التقدير، وإلى بمعنى اللام أي لضر ‏{‏مَسَّهُ‏}‏ والظاهر أن هذا وصف لجنس الإنسان مطلقاً أو الكافر منه باعتبار حال بعض الأفراد ممن هو متصف بهذه الصفات‏.‏

وذكر الشهاب أن للمفسرين في المراد بالإنسان هنا ثلاثة أقوال فقيل‏:‏ الجنس وقيل‏:‏ الكافر وقيل‏:‏ شخص معين وعليه لا حاجة إلى الاعتبار لكن لا اعتبار له ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك التزيين العجيب ‏{‏زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏ أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ من الإعراض عن الذكر والدعاء والانهماك في الشهوات، والإسراف مجاوزة الحد وسموا أولئك مسرفين لما أن الله تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة وهم قد صرفوها إلى ما لا ينبغي مع أنها رأس مالهم، وفاعل التزيين إما مالك الملك جل شأنه وإما الشيطان عليه اللعنة وقد مر تحقيق ذلك وكذلك فتذكر‏.‏ وتعلق الآية الكريمة بما قبلها قيل من حيث أن في كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الاستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقرر في الأولى ومن الضر المقرر في الأخرى‏.‏

وذكر الإمام في وجه الانتظام مع الآية الأولى وجهين‏.‏ الأول‏:‏ أنه تعالى بين في الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك وأكد ذلك في هذه الآية حيث دلت على غاية ضعفه ونهاية عجزه‏.‏ والثاني‏:‏ أنه سبحانه أشار في الأولى إلى أن الكفرة يستعجلون نزول العذاب وبين جل شأنه في هذه أنهم كاذبون في ذلك الطلب حيث أفادت أنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه انتهى‏.‏ ولكل وجهة‏.‏

وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع إليه في الشدة واللائق بحال الكامل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء فإن ذلك أرجى للإجابة ففي الحديث «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»

وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال‏:‏ ادع الله تعالى يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك، وفي حديث للترمذي عن أبي هريرة، ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء» والآثار في ذلك كثيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون‏}‏ مثل قوم نوح‏.‏ وعاد‏.‏ وثمود، وهو جمع قرن بفتح القاف أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران كأن أهل ذلك الزمان اقترنوا في أعمالهم وأحوالهم، وقيل‏:‏ القرن أربعون سنة وقيل‏:‏ ثمانون وقيل مائة وقيل هو مطلق الزمان، والمراد هنا المعنى الأول وكذا في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» وقوله‏:‏

إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم *** وخلفت في قرن فأنت غريب ‏{‏مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ أي من قبل زمانكم، والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمي، والجار والمجرور متعلق بأهلكنا، ومنع أبو البقاء كونه حالا من القرون ‏{‏لَمَّا ظَلَمُواْ‏}‏ أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغي والضلال، والظرف متعلق بأهلكنا وجعل لما شرطية بتقدير جواب هو أهلكناهم بقرينة ما قبله تكلف لا حاجة إليه وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏ظَلَمُواْ‏}‏ باضمار قد وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالبينات‏}‏ متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع حال من ‏{‏رُسُلُهُمْ‏}‏ دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو متلبسين بها حين لا مجال للتكذيب، وجوز أبو البقاء وغيره عطفه على ‏{‏ظَلَمُواْ‏}‏ فلا محل له من الاعراب أو محله الجر وذلك عند من يرى إضافة الظرف إلى المعطوف عليه، والترتيب الذكرى لا يجب أن يكون حسب الترتيب الوقوعي كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 100‏]‏ ولا حاجة إلى هذا الاعتذار بناء على أن الظلم ليس منحصراً في التكذيب بل هو محمول على سائر أنواع الظلم، والتكذيب مستفاد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ على أبلغ وجه وآكده لأن اللام لتؤكيد النفي‏.‏

وهذه الجملة على الأول عطف على ‏{‏ظَلَمُواْ‏}‏ وليس من العطف التفسيري في شيء على ما قاله صاحب الكشف خلافاً للطيبي لأن الأولى أخبار باحداق التكذيب وهذه أخبار بالإصرار عليه، وعلى الثاني عطف على ما عطف عليه، وقيل‏:‏ اعتراض للتأكيد بين الفعل وما يجري مجرى مصدره التشبيهي أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أي مثل ذلك الجزاء الفظيع أي الاهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة ‏{‏نَجْزِي القوم المجرمين‏}‏ أي كل طائفة مجرمة فيشمل القرون، وجعل ذلك عبارة عنهم غير مناسب للسياق‏.‏ وقرىء ‏{‏يَجْزِى‏}‏ بياء الغيبة التفاتاً من التكلم في ‏{‏أَهْلَكْنَا‏}‏ إليها‏.‏ وحاصل المعنى على تقدير العطف أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل وأنهم ما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم، ويقتصر على الأمر الأول في بيان الحاصل على تقدير الاعتراض، وذكر الزمخشري بدل الأمر الثاني علم الله تعالى أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل عليهم السلام وجعل بياناً على التقديرين وفيه ما يحتاج إلى الكشف فتدبره‏.‏

وتعليل عدم الإيمان بالخذلان ونحوه ظاهر، وكلام القاضي صريح في تعليله أيضاً بعلم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر‏.‏ واعترض بأنه مناف لقولهم‏:‏ إن العلم تابع للمعلوم، وتكلف بعض الفضلاء في تصحيحه ما تكلف ولم يأت بشيء‏.‏ وقال بعض المحققين‏:‏ معنى كون العلم تابعاً للمعلوم أن علمه تعالى في الازل بالمعلوم المعين الحادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية وفعليتها فيما لا يزال فتابع لعلمه الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال على هذه الخصوصية فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه تعالى الأزلي ووقوعه تابع له وهذا مما لا شبهة فيه وهو مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى وبه ينحل إشكالات كثيرة فليحفظ‏.‏ وذكر مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني أن معنى كون العلم تابعاً للمعلوم أنه متعلق به كاشف له على ما هو عليه وبني على ذلك كون الماهيات ثابتة غير مجعولة في ثبوتها، والقول بالتبعية المذكورة مما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره ونازع في ذلك عبد الكريم الجيلي‏.‏ وقال الشيخ محمد عمر البغدادي عليه الرحمة‏:‏ إن كون العلم تابعاً للمعلوم بالنظر إلى حضرة الأعيان القديمة التي أعطت الحق العلم التفصيلي بها وأما بالنظر إلى العلم الإجمالي الكلي فالمعلوم تابع للعلم لأن الحق تعالى لما تجلى من ذاته لذاته بالفيض الأقدس حصلت الأعيان واستعداداتها فلم تحصل عن جهل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وحينئذ فلا مخالفة بين الشيخ الأكبر قدس سره والجيلي، على أنه إن بقيت هناك مخالفة فالحق مع الشيخ لأن الجيلي بالنسبة إليه نحلت تدندن حول الحمى، والدليل أيضاً مع الشيخ كنار على علم لكنه قد أبعد رضي الله تعالى عنه الشوط بقوله‏:‏ العلم تابع للمعلوم والمعلوم أنت وأنت هو والبحث وعر المسلك صعب المرتقى وتمام الكلام فيه يطلب من محله‏.‏

واستفادة معنى العلم هنا على ما قيل من التأكيد الذي أفادته اللام، وفي الآية وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لأنهم وؤولئك المهلكين مشتركون فيما يقتضي الإهلاك، ويعلم مما تقرر أن ضمير ‏{‏كَانُواْ‏}‏ للقرون وهو ظاهر، وجوز مقاتل أن يكون الضمير لأهل مكة وهو خلاف الظاهر، وكذا جوز كون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذاناً بأنهم أعلام في الإجرام وذكر ‏{‏القوم‏}‏ إشارة إلى أن العذاب عذاب استئصال‏.‏

والتشبيه على هذا ظاهر إذ المعنى يجزيكم مثل جزاء من قلبكم، وأما على الأول فهو على منوال ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وأضرا به وفيه بعد أيضاً بل قال بعض المحققين‏:‏ يأباه كل الاباء قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الارض مِن بَعْدِهِم‏}‏ فإنه صريح في أنه ابتداء تعرض لأمورهم وإن ما بين فيه مبادي أحوالهم لاختبار كيفية أعمالهم على وجه يشعر باستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وحطابهم ببت القول باهلاكهم لكمال إجرامهم والعطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13‏]‏ لا على مَا قَبْلِهِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كذلك نَجْزِي القوم المجرمين ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الارض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ أي لنعلم أي عمل تعملون فكيف مفعول مطلق لتعلمون، وقد صرح في المغنى بأن كيف تأتي كذلك وأن منه ‏{‏كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 6‏]‏ وليست معمولة ‏{‏لِنَنظُرَ‏}‏ لأن الاستفهام له الصدارة فيمنع ما قبله من العمل فيه، ولذا لزم تقديمه على عامله هنا‏.‏

وقيل‏:‏ محلها النصب على الحال من ضمير ‏{‏تَعْمَلُونَ‏}‏ كما هو المشهور فيها إذا كان بعدها فعل نحو كيف ضرب زيد أي على أي حال تعملون الأفعال اللائقة بالاستخلاف من أوصاف الحسن، وفيه من المبالغة في الزجر عن الأعمال السيئة ما فيه، وقيل‏:‏ محلها النصب على أنها مفعول به لتعملون أي أي عمل تعملون خيراً أو شراً، وقد صرحوا بمجيئها كذلك أيضاً، وجعلوا من ذلك نحو كيف ظننت زيداً، وبما ذكر فسر الزمخشري الآية، وتعقبه القطب بما تعقبه ثم قال‏:‏ ولعله جعل كيف ههنا مجازاً بمعنى أي شيء لدلالة المقام عليه‏.‏

وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن معنى كيف السؤال عن الأحوال والصفات لا عن الذوات وغيرها فالسؤال هنا عن أحوالهم وأعمالهم ولا معنى للسؤال عن العمل إلا عن كونه حسناً أو قبيحاً وخيراً أو شراً فكيف ليست مجازاً بل هي على حقيقتها، ثم إن استعمال النظر بمعنى العلم مجاز حيث شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه، والكلام استعارة تمثيلية مرتبة على استعارة تصريحية تبعية، والمراد يعاملكم معاملة من يطلب العلم بأعمالكم ليجازيكم بحسبها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏المُلك‏:‏ 2‏]‏ وقيل يمكن أن يقال‏:‏ المراد بالعلم المعلوم فحينئذ يكون هذا مجازاً مرتباً على استعارة، وأيا ما كان فلا يلزم أن لا يكون الله سبحانه وتعالى عالماً بأعمالهم قبل استخلافهم، وليس مبني تفسير النظر بالعلم على نفي الرؤية كما هو مذهب بعض القدرية القائلين بأنه جل شأنه لا يرى ولا يرى فأنا ولله تعالى الحمد ممن يقول‏:‏ إنه تبارك وتعالى يرى ويري والشروط في الشاهد ليست شروطاً عقلية كما حقق في موضعه، وان الرؤية صفة مغايرة للعلم وكذا السمع أيضاً، وممن يقول أيضاً‏:‏ إن صور الماهيات الحادثة مشهودة لله تعالى أزلا في حال عدمها في أنفسها في مرايا الماهيات الثابتة عنده جل شأنه بل هو مبني على اقتضاء المعنى له فإنك إذا قلت‏:‏ أكرمتك لأرى ما تصنع فمعناه أكرمتك لأختبرك وأعلم صنعك فأجازيك عليه، ومن هنا يعلم أن حمل النظر على الانتظار والتربص كما هو أحد معانيه ليس بشيء، وبعض الناس حمل كلام بعض الأفاضل عليه وارتكاب شططاً وتكلم غلطاً‏.‏

‏{‏هذا‏}‏ وقرىء ‏{‏لنظر‏}‏ بنون واحدة وتشديد الظاء ووجه ذلك أن النون الثانية قلبت ظاءاً وأدغمت

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏جِثِيّاً وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بينات‏}‏ التفات من خطابهم إلى الغيبة إعراضاً عنهم وتوجيهاً للخطاب إلى سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالاستخلاف من التكذيب والكفر بالآيات البينات وغير ذلك كدأب من قبلهم من القرون المهلكة، وصيغة المضارع للدلالة على تحدد جوابهم الآتي حسب تجدد التلاوة، والمراد بالآيات الآيات الدالة على التوحيد وبطلان الشرك‏.‏

وقيل‏:‏ ما هو أعم من ذلك‏.‏ والإضافة لتشريف المضاف والترغيب في الإيمان به والترهيب عن تكذيبه ونصب ‏{‏بينات‏}‏ على الحال أي حال كونها واضحات الدلالة على ما تضمنته، وإيراد فعل التلاوة مبنياً للمفعول مسنداً إلى الآيات دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل للاشعار بعدم الحاجة لتعيين التالي وللإيذان بأن كلامهم في نفس المتلو ولو تلاه رجل من إحدى القريتين عظيم ‏{‏قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا‏}‏ وضع الموصول موضع الضمير إشعاراً بعلية ما حيز الصلة المعظمة المحكية عنهم وذماً لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا‏}‏ أشاروا بهذا إلى القرآن المشتمل على تلك الآيات لا إلى أنفسها فقط قصدا إلى إخراج الكل من البين أي ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث وتوابعه أو ما نكرهه من ذم آلهتنا والوعيد على عبادتها ‏{‏أَوْ بَدّلْهُ‏}‏ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى، ولعلهم إنما سألوا ذلك كيداً وطمعاً في إجابته عليه الصلاة والسلام ليتوسلوا إلى الإلزام والاستهزاء وليس مرادهم أنه عليه الصلاة والسلام لو أجابهم آمنوا ‏{‏قُلْ‏}‏ أيها الرسول لهم ‏{‏مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ‏}‏ المصدر فاعل يكون وهي من كان التامة وتفسر بوجد ونفي الوجود قد يراد به نفي الصحة فإن وجود ما ليس بصحيح كلا وجود، فالمعنى هنا ما يصح لي أصلاً تبديله دمنْ تلْقَاء نَفْسي‏}‏ أي من جهتي ومن عندي‏.‏ وأصل تلقاء مصدر على تفعال التاء ولم يجيء مصدر بكسرها غيره وغير تبيان في المشهور‏.‏

وقرىء شاذا بالفتح وهو القياس في المصادر الدالة على التكرار كالتطواف والتجوال، وقد خرج هنا من ذلك إلى الظرفية المجازية، والجر بمن لا يخرج الظرف عن ظرفيته ولذا اختصت الظروف الغير المتصرفة كعند بدخولها عليها‏.‏

ومن الناس من وهم في ذلك وقصر الجواب ببيان امتناع ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولاً من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى فهو بحسب المآل والحقيقة جواب عن الأمرين ‏{‏إِنْ أَتَّبِعُ‏}‏ أي ما اتبع فيما آتى وأذر ‏{‏إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ‏}‏ من غير تغيير له في شيء أصلا على معنى قصر حاله عليه الصلاة والسلام على أتباع ما يوحى لا قصر اتباعه على ما يوحي إليه كما هو المتبادر من ظاهر العبارة فكأنه قيل‏:‏ ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي، والجملة مستأنفة بياناً لما يكون فإن من شأنه اتباع الوحي على ما هو عليه لا يستقل بشيء دونه أصلاً، وفي ذلك على ما قيل جواب لنقض مقدر وهو أنه كيف هذا وقد نسخ بعض الآيات ببعض، ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه صلى الله عليه وسلم، وكذا تقييد التبديل في الجواب بقوله‏:‏ ‏{‏مِن تِلْقَاء نَفْسِى‏}‏ لرد تعريضهم بأنه من عنده عليه الصلاة والسلام ولذلك أيضاً سماه عصياناً عظيماً مستتبعاً لعذاب عظيم بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ وهو تعليل لمضمون ما قبله من امتناع التبديل واقتصار أمره صلى الله عليه وسلم على أتباع الوحي أي إني أخاف إن عصيته تعالى بتعاطي التبديل والإعراض عن الوحي عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة ويوم اللقاء الذي لا يرجونه، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح لأن اقتراح ما يوجبه يستوجبه أيضاً وإن لم يكن كفعله، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة والسلام لتهويل أمر العصيان وإظهار كمال نزاهته صلى الله عليه وسلم، وفي إيراد اليوم بالتنوين التفخيمي ووصفه بعظيم ما لا يخفى ما فيه من العذاب وتفظيعه، وجوز العلامة الطيبي كون الجواب المذكور جواباً عن الاقتراحين من غير حاجة إلى شيء وذلك بحمل التبديل فيه على ما يعم تبديل ذات بذات أخرى كبدلت الدنانير دراهم وهو الذي أشاروا إليه بقولهم‏:‏ ‏{‏ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا‏}‏ وتبديل صفة بصفة أخرى كبدلت الخاتم حلقة وهو الذي أشاروا إليه بقولهم‏:‏ ‏{‏أَوْ بَدّلْهُ‏}‏‏.‏

وأورد عليه بأن تقييد التبديل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن تِلْقَاء نَفْسِى‏}‏ يمنع حمله على الأعم لأنه يشعر بأن ذلك مقدور له صلى الله عليه وسلم ولكن لا يفعله بغير إذنه تعالى والتبديل الذي أشاروا إليه أولاً غير مقدور له عليه الصلاة والسلام حتى أن المقترحين يعلمون استحالة ذلك لكن اقترحوه لما مر وقالوا‏:‏ لو شئنا لقلنا مثل هذا مكابرة وعناداً، ثم أن الظاهر أنهم اقترحوا التبديل والإتيان بطريق الافتراء قيل‏:‏ لا مساغ للقول بأنهم اقترحوا ذلك من جهة الوحي فكأنهم قالوا‏:‏ ائت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته ويكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏مَا يَكُونُ لِى‏}‏ الخ ما يتسهل لي ولا يمكنني أن أبدله لما في الكشاف من أن قوله‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى‏}‏ يرد ذلك، ووجه بأنهم لم يطلبوا ما هو عصيان على هذا التقدير حتى يقول في جوابهم ما ذكر، ونظر فيه بأن الطلب من غير اذن عصيان فإن لم يحمل ما يتسهل لي على أن ذلك لكونه غير مأذون كان الجواب غير مطابق لسؤالهم لأن السؤال عن تبديل من الله تعالى وهو عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ لا يمكنني التبديل من تلقاء نفسي في الجواب وإن حمل عليه فالعصيان أيضاً منزل عليه، وأجيب بأن صاحب الكشاف حمل ‏{‏مَّا يَكُونُ‏}‏ على أنه لا يمكن ولا يتسهل والعصيان يقع على الممكن المقدور لا أنهم طلبوا ما هو عصيان أو ليس والمطابقة حاصلة بل أشدها لأن الحاصل أما التبديل من تلقاء نفسي فغير ممكن وأما من قبل الوحي فأنا تابع غير متبوع‏.‏

نعم لا ينكر أنه يمكن أن يأتي وجه آخر بأن يحمل على أنه لا يحل لي ذلك دون إذن وصاحب الكشاف لم ينفه‏.‏

وذكر بعض المحققين أنه لا مساغ لحمل مقترحهم على ما هو من جهة الوحي لمكان التعليل بأني أخاف الخ إذ المقصود بما ذكر فيه معصية الافتراء كما يرشد إلى ذلك صريح ما بعده من الآيتين الكريمتين وحينئذ لا يتحقق فيه تلك المعصية، ومعصية استدعاء تبديل ما اقتضته الحكمة التشريعية لا سيما بموجب اقتراح الكفرة ليست مقصودة فلا ينفع تحققها، وهو كلام وجيه يعلم منه ما في الكلام السابق من النظر‏.‏ بقي أنه يفهم من بعض الآثار أنهم طلبوا الاتيان من جهة الوحي فعن مقاتل أن الآية نزلت في خمسة نفر عبد الله بن أمية المخزومي‏.‏ والوليد بن المغيرة‏.‏ ومكرز بن حفص‏.‏ وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري‏.‏ والعاص بن عامر بن هشام قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كنت تريد أن نؤمن من لك فائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومنات وليس فيه عيبها وإن لم ينزل الله تعالى عليك فقل أنت من نفسك أو بدله فاجعل مكان آية عذاب رحمة ومكان حرام حلالاً ومكان حلالا حراماً، وربما يقال‏:‏ إن هذا على تقدير صحته لا يأبى أن يكون ما في الأية ما أشار إليه تالى الشرطية الثانية من كلامهم فتدبر

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ تحقيق لحقية القرآن وأنه من عنده سبحانه أثر بيان بطلان ما اقترحوه على أتم وجه، وصدر بالأمر المستقل إظهاراً لكمال الاعتناء بشأنه وإيذاناً باستقلاله مفهوماً وأسلوباً فإنه برهان دال على كونه يأمر الله تعالى ومشيئته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وما سبق مجرد إخبار باستحالة ما اقترحوه، ومفعول المشيئة محذوف ينبىء عنه الجزاء كما هو المطرد في أمثاله، ويفهم من ظاهر كلام بعضهم أنه غير ذلك وليس بذلك وهو ظاهر، والمعنى أن الأمر كله منوط بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء أصلاً ولو شاء سبحانه عدم تلاوتي له عليكم وعدم إدرائكم به بواسطتي بأن لم ينزله جل شأنه علي ولم يأمرني بتلاوته ما تلوته عليكم ‏{‏وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ‏}‏ أي ولا أعلمكم به بواسطتي والتالي وهو عدم التلاوة والإدراء منتف فينتفي المقدم وهو مشيئته العدم وهي مستلزمة لعدم مشيئته الوجود فانتفاؤه مستلزم لانتفائه وهو إنما يكون بتحقق مشيئة الوجود فثبت أن تلاوته عليه الصلاة والسلام للقرآن وإدراءه تعالى بواسطته بمشيئته تعالى‏.‏

وتقييد الإدراء بذلك هو الذي يقتضيه المقام وحيث اقتصر بعضهم في تقدير المفعول في الشرط على عدم التلاوة علل التقييد بأن عدم الاعلام مطلقاً ليس من لوازم الشرط الذي هو عدم مشيئة تلاوته عليه الصلاة والسلام فلا يجوز نظمه في سلك الجزاء، ولم يظهر وجه الاقتصار على ذلك وعدم ضم عدم الإدراء إليه مع أن العطف ظاهر فيه، وفي إسناد عدم الإدراء إليه تعالى المنبىء عن استناد الإدراء إليه سبحانه أعلام بأنه لا دخل عليه الصلاة والسلام في ذلك حسبما يقتضيه المقام أيضاً‏.‏ وفي رواية أبي ربيعة عن ابن كثير ‏{‏ولأدراكم‏}‏ بلام التوكيد وهي الواقعة في جواب ‏{‏عَلَيْهِمْ لَوْ‏}‏ أب لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري على معنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري، وجيء باللام هنا للإيذان بأن إعلامهم به على لسان غيره صلى الله عليه وسلم أشد انتفاء وأقوى، ولعل ‏{‏لا‏}‏ في القراءة الأولى لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا فهي لا تقع في جواب ‏{‏لَوْ‏}‏ فلا يقال‏:‏ لو قام زيد لا قام عمرو بل ما قام، ومن هنا نص السمين على أنها زائدة مؤكدة للنفي‏.‏ وروي عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وابن سيرين أنهم قرأوا ‏{‏وَلاَ‏}‏ بإسناد الفعل إلى ضميره صلى الله عليه وسلم كالفعل السابق، والأصل ولا أدريتكم فقلت الياء ألفا على لغة من يقلب الياء الساكنة المفتوح ما قبلها ألفا وهي لغة بلحرث بن كعب وقبائل من اليمن حتى قلبوا ياء التثنية ألفا وجعلوا المثنى في جميع الأحوال على لفظ واحد وحكى ذلك قطرب عن عقيل‏.‏

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر‏.‏ وغيرهما عن الحسن أنه قرأ ‏{‏وَلاَ‏}‏ بهمزة ساكنة فقيل‏:‏ إنها مبدلة من الألف المنقلبة عن الياء كما سمعت وقيل‏:‏ إنها مبدلة من الياء ابتداء كما يقال في لبيت لبئت وعلى القولين هي غير أصلية، وجاء ذلك في بعض اللغات كما نص عليه غير واحد، وجوز أن تكون أصلية على أن الفعل من الدرء وهو الدفع والمنع ويقال أدرأته أي جعلته دارئاً أي دافعاً، والمعنى ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال‏.‏ وقرىء ‏{‏عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ‏}‏ بالهمز وتركه أيضاً مع إسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن جرير أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقرأ دولا أنذرتكم به‏}‏ ‏{‏‏}‏ ‏{‏فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً‏}‏ نوع تعليل للملازمة المستلزمة لكون ذلك بمشيئة الله عز وجل حسبما مر آنفاً واللبث الإقامة، ونصب ‏{‏عُمُراً‏}‏ على التشبيه بظرف الزمان والمراد منه مدة، وقيل‏:‏ هو على تقدير مضاف أي مقدار عمر، وهو بضم الميم وقرأ الأعمش بسكونها للتخفيف، والمعنى قد أقمت فيما بينكم مدة مديدة وهي مقدار أربعين سنة تحفظون تفاصيل أحوالي وتحيطون خبراً بأقوالي وأفعالي ‏{‏مِن قَبْلِهِ‏}‏ أي من قبل نزول القرآن أو من قبل وقت نزوله، ورجوع المضير للتلاوة ليس بشيء لا أتعاطى شيئاً مما يتعلق بذاك لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشف عن أسرار الحقائق وأحكام الشرائع ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلي ووجوب كونه منزلاً من عند الله العزيز الحكيم فإن ذلك غير خاف على من لهعقل سليم وذهن مستقيم بل لعمري أن من كان له أدنى مسكة من عقل إذا تأمل في أمره صلى الله عليه وسلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل من غير مصاحبة العلماء في شأن من الشؤون ولا مراجعة إليهم في فن من الفنون ولا مخالطة للبلغاء في المحاورة والمفاوضة ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب وحيرت بلاغته مصاقع العرب واحتوى على بدائع أصناف العلوم ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم وغدا كاشفاً عن أسرار الغيب التي لا تنالها الظنون ومعرباً عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون ومصدقاً لما بين يديه من الكتب المنزلة ومهيمناً عليها في أحكامه المجملة والمفصلة لا يبقى عنده اشتباه في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعم أفضاله، هذا هو الذي اتفقت عليه كلمة الجمهور وهو أوفق بالرد عليهم كما لا يخفى على المتأمل‏.‏

وقيل‏:‏ إن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم واقتصاره صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هنا لكون القرآن في نفسه أمراً خراجاً عن طوق البشر ولا بكونه عليه الصلاة والسلام غير قادر على الاتيان بمثله أن يستشهد ههنا بما يلائم ذلك من أحواله صلى الله عليه وسلم المستمرة في تلك المدة المتطاولة من كمال نزاهته عليه الصلاة والسلام عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان كما ينبىء عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى، والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أترض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلاً عما فيه كذب وافتراء ألا تلاحظونه فلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد يستحيل أن يفتري على الله عز وجل ويتحكم على كافة الخلق بالأوامر والنواهي الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء وغير ذلك وإن ما أتى به وحي مبين تنزيل من رب العالمين انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن هذا غير منساق إلى الذهن وأن الكلام الأول مشير في الجملة إلى كون القرآن أمراً خارجاً عن طوق البشر وأنه صلى الله عليه وسلم غير قادر على الاتيان بمثله على أنه بعد لا يخلو عن مقال فتأمل

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏